المؤذنون: صلوا في بيوتكم!

الثلاثاء 17 مارس
(بعد مرور 81 يوما على تفشي الوباء عالميا) 

سوق المنامة مرة أخرى.. السوق التي أحب، وأحرص على زيارتها في كل شهور السنة، وفي مختلف الأوقات من اليوم.. وكما أن الحياة فيها جميلة جدا في المساء، أحب جدا كذلك صباحات المنامة. شيء لا أعرف كنهه على وجه اليقين يجذبني في رؤية المحلات وهي تفتح وكأنها تستيقظ من الصباح الباكر، فتدب الحياة تدريجيا في الطرقات.
لا شيء يعادل هذا المنظر كل صباح. أما اليوم، فكان المنظر مغايرا وبشكل لم آلفه. وصلت في نحو الساعة السابعة صباحا، وإذا بطرق العاصمة خاوية. بقيت في أرجائها نحو ساعتين، إذ شارفت الساعة على التاسعة حين غادرت، ولما تزل الشوارع خاليا ولا من حياة فيها.

في مقهى عبدالقادر، المقهى الأكثر شعبية في المنامة والذي يقصده رجال من شتى المشارب والأعمار، لفت نظرنا أنا و"ميم" أن مرتادي المقهى كانوا ينادون النادل الهندي باسم "عبدالزهراء" ولا أدري إن كان هذا فعلا اسمه أم هو لقب اختلقه الرواد. فالناس اعتادت هنا أن تلبس العمالة القادمة من آسيا أسماء غير أسمائها، وذلك لتسهيل التخاطب والتآلف معها.
جاء رجل كبير في السن، محدودب الظهر، يلبس قميصا "خاكي" اللون وبنطالا. وقبل أن يجلس، أخرج من جيبه قطعا نقدية صفّها أمامه فوق الطاولة، وهو يعرف تماما ما الذي سيطلب لنفسه بتلك النقود، كما كان يعرف أيضا ثمن ما سيطلب. نادى الرجل النادل، وأبلغه بطلبه: شاي أحمر، وكأس ماء، ونخج (نخي) مع ليمون.
حينما وضع النادل ما طلبه الرجل أمامه، شرع هذا في تناولها بشكل أشبه بممارسة طقوس بدا واضحا أنه اعتاد على القيام بها كل صباح: فهو شرب شيئا من الماء أولا، ثم صب منه جزءا على قطعة الليمون فغسلها، فعصرها في الشاي حتى تغير لونه، ووضع ما بقي من الليمونة في فمه وبدأ بمضغ لبها. بعد ذلك صب شيئا من الماء في الطبق المرافق "لاستكانة" الشاي حتى أصبحت "الاستكانة" تسبح في طبق الماء، (ولا أدري سبب ذلك فمن غير المعقول أنه يريد تبريد الشاي بهذا الجزء البسيط من الماء). أتمّ الرجل شرب شايه، وانتهى من أكل النخي، ثم غسل يديه بما تبقى من ماء في الكأس. وتناول كيسا كان يحمله معه، وقام من مجلسه ماضيا في طريقه. لم يتحدث مع أحد قط، ولم ينبس ببنت شفة سوى كلمات دارت بينه وبين النادل، وما نظر في عين من حوله.
هناك من لا يأبه بكل المحاذير والمخاوف التي تحيط بنا، بل يمضي في ممارسة أنشطته تماما كما كان يفعل كل يوم. وكأنه يقول: "اقلقوا أيها الناس، فلكم دينكم ولي دين".

في السعودية، نادى المؤذنون أثناء رفع الأذان، وبعد "حي على الصلاة" بنداء: "صلوا في بيوتكم"، ثم أنهوا الأذان بالتكبير والتاليه المعتاد. هذا هو نداء الخوف. الرهبة التي تملأ الصدر جراء سماع مثل هذا النداء لا يمكن تخطيها. لم أشعر أبدا في حياتي بمثل هذا الشعور. بل في الحقيقة لم أمر أبدا في مثل هذا الظرف وأكاد أجزم أن أبي كذلك لم يمر به. الانحدار الذي نشهده يوما بعد آخر، وساعة بعد أخرى لمستوى الأمان والاطمئنان آخذ في التوسع شيئا فشيئا. سمعت أحدهم يقول: "هذا عقاب من الله، فهو يطردنا من اللجوء إليه". غير أنني لا أظن أبدا أن الله يطرد من لجأ إليه. رب كتب على نفسه الرحمة لا يمكن أن يفعل ذلك. الوقت عصيب بالفعل وكل شيء فيه مربك.

في مؤتمر صحفي، أعلن وزير المالية حزمة من الإجراءات ستقوم بها الحكومة من أجل مواجهة الانتشار المستمر للفايروس. تضمنت القرارات إغلاق المطاعم والمقاهي ابتداء من الغد ولمدة شهر كامل. وتكفل الحكومة بسداد فواتير الكهرباء للمواطنين لمدة ثلاثة شهور قادمة. كما نودي على البنوك أن تؤجل أقساط المتضررين لمدة ستة شهور. وتعهدت الحكومة بدفع رواتب موظفي القطاع الخاص لمدة ثلاثة شهور قادمة، وخصصت من أجل كل هذا نحو 3.4 مليار دولار.
لا شك أن هذه الإجراءات والمبادرات ستكلف الدولة الكثير لكن الغرض الواضح منها لا يقتصر فقط على إرسال رسائل واضحة على أن الحكومة حريصة على أن تخرج البلاد بأقل الخسائر الممكنة، بل ولطمأنة المواطنين بأنهم محميون على أكثر من صعيد.
البعض رأى أن الأمر لا يخلو من طرافة، حتى قال: لقد فعل الكورونا في شهرين ما لم يفعله البرلمانيون في 15 سنة. أطاح بالقروض، وعلق الفواتير، وبسببه دعمت الحكومة القطاع الخاص، وفوق هذا أعطى إجازة مفتوحة للطلاب.

وككل ما لا نرتقب حدوثه، صعقنا اليوم بخبر أن زميلة لنا في العمل أجريت لها الفحوص وأظهرت النتائج إصابتها بالفايروس. 

Comments

Popular posts from this blog

سادس أيام الحجر.. وباء برتم أرجوحة

سارة وصديقتها

زيارة جميلة