الفايروس يصل لزميلتنا


الأربعاء 18 مارس
(بعد مرور 82 يوما على تفشي الوباء عالميا) 
في حلقة جديدة مفاجئة من حلقات مسلسل العالقين في إيران، أعلن في البحرين أن الشركة المتعهدة بتسيير الرحلة الثانية من إيران قد تراجعت وانسحبت معتذرة عن تنفيذها لتلك الرحلة. ضاق لهذا الخبر صدور الكثيرين. فالعالقين يذوقون الأمرين في مدينة مشهد، وهم ينتظرون إرجاعهم على أحر من الجمر.
المقاهي كانت مغلقة هذا اليوم، وما تبيعه مقتصرا على الطلبات الخارجية فقط (الصورة). كان منظر المقاهي والمطاعم مريعا ليس فقط لخلوها من مرتاديها، بل ولأن المقاعد وضعت مكبوبة على وجوهها فوق الطاولات، لتقتصر خدماتها على الطلبات الخارجية. مطاعم صغيرة قامت متخفية بالسماح لبعض زبائنها بالأكل في الداخل في مخالفة للقوانين. توقعت حينها أن مثل هذه المخالفات سيستمر وستقوم السلطات بإيقاف ومخالفتهم البعض بعد أن تكشف تجاوزاتها. لا يتعظ الإنسان مهما حدث، ولا يمكن أن يلتزم بالضوابط طواعية مهما كان، حتى يصله العقاب الرادع أو يقترب منه.

وكأن مسلسلات الضيق والحزن لا تنتهي، وصلتني من زميل الدراسة القديم (ميم جيم) من قرية جنوسان رسالة نعي لأمه رحمها الله. كثر الحديث عن جنوسان هذا الصباح لسبب متعلق بحادثة اختلاط اجتماعي لمصاب فيها. لم أدر أن المرأة التي توفيت يوم أمس ودفنت في المنامة، بعد أيام من وفاة زوجها، كانت هي أم زميلي هذا. يقال أن الزوجين أجريا فحصا سابقا وكانت نتائجه سلبية. إلا أن الحديث بعد ذلك انتشر أنهما انما توفيا لإصابتهما بالفايروس بالفعل.  
في النعي الذي أرسله صديقي، كتب: " بسبب الظروف التي تمر بها البلاد ولسلامة الجميع سوف تكون التعازي عبر الاتصال أو رسائل واتس اب لأبناء المرحومة". يا له من إحساس صعب أن يفقد زميل أو صديق أمه وأباه في ظرف أيام بسيطة، ولا تستطيع الوقوف إلى جانبه أو تقديم العزاء له إلا برسالة تبعثها إلى هاتفه.

أما زميلتنا "سين" التي أصيبت بالفايروس فقد تواصلت بطبيعة الحال أثناء عملها مع عدد من زملائنا الآخرين، فاستوجب الأمر تطهير مكاتب العمل وإبعاد الجميع عن المقر حتى إشعار آخر. أرسل الرئيس التنفيذي رسالة للجميع يطلب منهم البقاء في منازلهم ومباشرة العمل عن بعد. كان التوجيه بالعمل في المنزل تأكيدا على وصول الخطر إلى حلوقنا، وصفعة أخرى على طريق التنبيه من السبات إن كان هناك من لازال يغط فيه.  
تنامى الخوف تدريجيا بين زملاء العمل، وعوضا عن الاكتفاء بقائمة من أدلت "سين" بأسمائهم كأشخاص تواصلت بشكل مباشر معهم، أظهر آخرون ظنونا بأنهم تواصلوا معها وأبدوا رغبتهم في أن يتم فحصهم تحرزا. كنت أعرف أن عملي لم يتقاطع مع "سين" ولم أشترك معها في شغل، ولكن قلقي تعاظم لدي حينما اتصل بي "نون" وقال: "جميعنا يجب أن نذهب للفحوصات هذه. نحن نتشارك الأكل والجلوس في مكاتب واحدة. لا بد أنك أنت أيضا تواصلت معها بشكل أو آخر."
حدّة التمنع انكسرت لدي. ولأن المرء لا بد يتأثر بمن يحيط به، صدّقت أنني تواصلت مع (سين) فعلا. فأرسلت رسالة لطلب إجراء الفحص.

ألم أقل من قبل أن الخوف عدو كل أمة؟ فهو له شباك غير مرئية يرميها على كل من يمر أمامه مثل الصياد الماهر الذي يعرف كيف يستغل ارتباك طريدته. لم تتركني خيوط الهواجس بل عكفت على لف نفسها حولي مكبلة عقلي ومحجرة على تفكيري.

بعد الغداء، وقبل توجهي للمركز الصحي لإجراء الفحص، اتصل بي مزارع المنزل بنغلاديشي الجنسية، ليبلغني أنه سيتوقف عن العمل ابتداء من اليوم. "كلو نفر يجي مريز. هادي كورونا في لا.. أنا لازم في فكر وقف شغل بابا."

وصلت المركز لإجراء الفحوصات. من سبقني من زملائي حذرني أن وقت الانتظار سيطول هناك بسبب كثرة الناس. لكن لحسن حظي كان عدد المنتظرين أقل بكثير حين وصلت. كان هناك حارسان مكلفين بتنظيم الدخول بأرقام متسلسلة تعطى لكل شخص لينتظر دوره. رأيت أولا زميلي "عين عين" ثم بعده "خاء ميم" ثم "نون ميم"، ف"عين ألف" و"نون  حاء"، و"جيم شين" وآخرين. كنا قرابة 12 زميلا خالط زميلتنا "س" شافاها الله.
لم أتصور أبدا أن يأتي يوم أرى فيه زملائي بهذه الهيئة أو في هذا المكان والظرف، لابسين كمامات على وجوههم، منتظرين في مركز طبي فحوصات لا ندري كنهها، لا أرى من الوجوه سوى أعينهم القلقة، ويجيبون على بعضهم عبر زفرات صدورهم الضيقة. أحدهم وضع كمامتين فوق بعضهما فغطى بهما وجهه من أسفل الذقن حتى نصف العينين. ولأنه كان يلبس نظارة طبية، فأنفاسه الساخنة تخرج من أعلى الكمامة لتملأ زجاج النظارة بالهواء الساخن مشكلة غمامة رطبة فوق الزجاج.
بين المنتظرين، كانت هناك مجموعة قالوا أنهم زاروا جنوسان، القرية التي كانت خبر الساعة في اليومين الأخيرين بسبب انتشار مفاجئ لإصابات الفايروس بين سكانها. ويتضح أن خوف هؤلاء الجماعة كان الدافع وراء حضورهم للفحص حتى من غير أخذ موعد لأنفسهم. حدثت مشادة كبيرة بينهم وبين الحارس وموظفي المركز. كان موقفا سخيفا جدا وغير مبرر صدرت خلاله ألفاظ غير لائقة من بعضهم. الخوف مرة أخرى كان السبب الأول وراء ما حدث. حينما يخاف الإنسان يتخذ ردود فعل مختلفة مرتبطة من قريب أو بعيد ببيئة الشخص، وتعليمه، وحتى لياقته وأخلاقه. أما طريقة حديثه فتكون مرتبطة بجميع ذلك أيضا. وقد يخاف المرء من شيء، ولكنه من أجل تجنب نتيجة الوقوع فيما يخافه، قد يصنف جميع من حوله إما أنهم معه أو ضده، ويتصرف معهم بحسب هذا التصنيف الذي رسمه في عقله.
حينما جاء دوري بعد نحو ساعتين، كان الفحص كما عبرت عنه الدكتورة المباشرة: "مزعج". إذ يمرر في الأنف عود بلاستيك نهايته قطنية لأخذ عينة من المسالك التنفسية العليا عبر الأنف. شعرت كأن وخزة العود وصلت لمكان ما في مخي. وبقي هذا الإحساس لدي لساعات بعد ذلك. عبر عن هذا الشعور "خاء" بأنه مثل ذبابة دخلت في داخل المخ. طالما أبهرني "خاء" بتعليقاته وتصويراته للأشياء.

يجب أن أسجل شهادة في حق الطاقم الطبي البحريني خلال هذه الأزمة التي نزلت على رؤوسهم أكثر من غيرهم. لقد تعامل الفريق بكل حرفية وبأخلاق عالية وروح معنوية مثابرة حتى اشتغل معظمهم ساعات طويلة جدا. الوقت عصيب على الجميع، وهم يتعاملون مع مختلف الأفراد، ففي المراجعين أشخاص متفهمون وفيهم من فقد صبره، وهناك من فقد عقله أيضا. ورغم ذلك فقد تعاملوا مع الجميع بهدوء، وحكمة، وقدموا خدمات جليلة اثبتوا أنهم فعلا على قدر المسؤولية المعطاة لهم رغم جهل العالم كله بما يمر به جراء هذا الوباء.

في المساء، وضع الصديق "ميم جيم" بوست على سناب تشات، صوره أثناء طوافه في مجمع 338 بالعدلية، وهو مجمع مليء بالمطاعم المعروفة والمكتظة، ولم يكن في المنطقة أحد يمشي سوى هو وصديقه. كتبت له تعليقا: "المغامران" فأجابني بالوجه ذي العينين الضاحكتين.

لم أنم حتى وصلتني رسائل تطمئنني بنتائج الفحوصات. فحوصاتنا جميعا أثبتت أن الفريق بأكمله كان سليما ولله الحمد. تداولنا بعض النكات فيما بيننا عن طريق الاحتفال بهذه النتيجة. اقترحت على الفريق أن نجتمع لأكل البيتزا المنزلية التي يعدها زميلنا "عين عين" فهو "له نَفَس" في الطبخ. وقلت معلقا: "هي فرصة لنتأكد من نشر الفايروس بيننا هذه المرة ". 😊

طُلب منا الحجر على أنفسنا في منازلنا، بعيدا عن الجميع وألا نختلط حتى بأسرنا في أيام الحجر تلك. اختلف عدد أيام الحجر التي أعطيت لكل منا اعتمادا على آخر أوقات تواصلنا مع "سين". أعطيت أنا ثمانية أيام لأحجر فيها على نفسي، على أن أبدأ في عدها منذ عصر هذا اليوم. حين عدت للمنزل، أبلغت الأسرة بأني سأظل في غرفة واحدة لا أبرحها. أعرف بأني سببت القلق للصغار على وجه التحديد. ابني محمد حين جاء ليلقي بنفسه علي كعادته كلما رآني أدخل المنزل، باغتته مفاجأة تجنبي له وكان متأثرا جدا. أعرف أن كلماتي لتبرير الأمر لم تكن لتزيل عنه شعوره بالغربة جراء هذا الابتعاد المفاجئ وغير المألوف.

Comments

Popular posts from this blog

سادس أيام الحجر.. وباء برتم أرجوحة

سارة وصديقتها

زيارة جميلة