يقل شكر الإنسان ويبدو له حتى أكل العصافير للتوت شدة


الجمعة 27 مارس
(بعد مرور 91 يوما على تفشي الوباء عالميا)

يحط العصفور على شجرة التوت قبل ساعة الفجر. يأكل من الثمرة الناضجة. يأكل ما يحتاجه منها فقط. ولا يعتدي على التوت الذي لم ينضج بعد. لا يكسر غصنا. لا يطرد غيره من الطيور. ولا يمنعها من أن تحط بجواره لتشاركه ثمار الشجرة. وهو حين يغادر لا يحمل معه من الثمر شيئا ليأكله في وقت لاحق، ولا ليحتفظ به لصيف قادم. وقبل أن ترسل الشمس أشعتها في الكون، يفرد العصفور جناحيه ويغادر.

يأتي الرجل ساعة الضحى. حاملا سلالا كبيرة ليملأها بالتوت. تلاحق عيناه الثمر الأسود الناضج فتعلوه الابتسامة. الشجرة يانعة وتحمل الكثير من التوت اليوم. يفرد السلال، يملؤها واحدة تلو الأخرى. سلال كلها مجهزة للبيع في السوق، فهو لا يكتفي بالأكل من الشجرة. لكنه في كل مرة يرى أثر العصفور في ثمار التوت يلعنه بشتى السباب. ويتهمه بالطمع والتعدي فهو لا يكف عن "سرقة" الثمر، وخاصة تلك الناضجة فيفسدها بمنقاره.

يتوعد الرجل العصفور بالشباك رغم أنه لم يحدث أبدا أن خسر حصاده بسبب نقراته الصغيرة. وما صار أبدا أن توقفت الشجرة عن الإثمار عاما بعد عام. ولم يحدث أن توقف عن بيع ما رزقه الله من توت في السوق في كل موسم.
استمر عطاء الشجرة. واستمر الرجل في لعن العصفور. ففي الرخاء، يقل شكر الإنسان ويبدو له حتى أكل العصافير للتوت شدة.

تصبح الحرية المطلقة في ذاتها خانقة أحيانا. فمعها تأتي المسؤولية. إذ أنك لن تطرق أبدا بيد المسؤولية جميع الأبواب الماثلة أمامك اعتباطا فقط لأنها أبواب توصلك لطرق مختلفة.

منذ الصباح وأنا أشعر أنني لست بخير. مؤشر الحرارة يشير لارتفاعها لدي لما فوق 37 درجة. سألت الزملاء إن كانوا بخير. قالت "ميم نون" أنها أصيبت بالزكام فاتصلت بالرقم 444 لكنها لم تحصل على جواب شاف. كان الجواب: "إن انتهت مدة 14 يوما من أيام الحجر ولم تظهر عليك الأعراض فعودي لممارسة حياتك الطبيعية." غيرت طريقة سؤالها فحصلت على نفس الجواب.
لم يشجعني ذلك على الاتصال من طرفي كذلك.

لو كان هناك شيئا واحدا أنا متيقن منه، فذلك حتما هو أننا نمر بأوقات ليست مختلفة وحسب، بل هي أيام وشهور يكاد لا يمر شبيها بها على البشرية إلا مرة في القرن أو أقل. شخصيا لا أعرف متى مر بنا حدث كهذا. فأن يجتاح شرق الأرض خطر، ويمشي سريعا نحو غربها، يقفل مدنا في طريقه، ويغرق دولا في الظلام، يصل إلينا فيجلسنا جميعا في البيت، بل ويفعل ما لم نتخيله يوما: يفرغ بيت الله من الطائفين، ومسجد رسوله من الزائرين. يخضع للفحص رئيس أعتى دولة في العالم، ويضع ملكة أعظم الدول في قصرها البعيد عن الجميع، وينال من ابنها ووريث عرشها.

مع حلول الظهر، يعلن رئيس الوزراء البريطاني بوريس بولتون أنه مصاب بالفايروس. "لدي بعض الأعراض الطفيفة مثل ارتفاع درجة الحرارة والسعال المتواصل."  بعده بسويعات يعلن وزيرة الصحة البريطاني بأنه مصاب كذلك ولديه أيضا أعراض طفيفة للفايروس.

الأخبار تشير إلى وصول قرابة 76 مسافرا بحرينيا ممن دبروا أمورهم بأنفسهم لمغادرة طهران عبر رحلات أخذتهم إلى الدوحة فمسقط. كثير من العالقين في إيران لم يتمكنوا من الانتظار بعد أسابيع من البقاء في إيران، وأتوا للبحرين عبر رحلات غير مباشرة أخذتهم إلى أكثر من مطار.
المفاجئ أنه فجأة انتشر خبر بأن شركة طيران الخليج رفضت أن تركبهم الطائرة من مسقط إلى البحرين وأنهم – أي المسافرين – سيتم إرجاعهم مرة أخرى إلى طهران. اشتعلت وسائل الاتصال الاجتماعي بشتى أنواع التعليقات.

(الصورة نشرت في وسائل التواصل الاجتماعي لمسافرين بحرينيين علقوا في الدوحة)

شركة طيران الخليج نشرت بيانا قالت فيه أنها ألغت رحلة العودة من مسقط بعدما تبين أن كثير من المسافرين على متنها قادمين من إيران، وأن سبب الإلغاء مرتبط بتحملها مسؤولية المحافظة على صحة موظفيها.
انتشر الخبر عالميا، ونقلته وكالات الأنباء ومن بينها راديو بي بي سي الانجليزي. في اعتقادي أن المسؤولية كبيرة جدا أن تُركب عددا كبيرا من المسافرين يحتمل أن يحمل أي منهم فايروس قاتل على متن طائرة ليست معدة لهذا الغرض. كان الأمر يتطلب التوضيح أكثر وبشكل جلي حتى يفهم الناس هذه الجزئية الحساسة من الموضوع، وهو ما لم تفعله الشركة وبالتالي نتنج عن هذا الأمر كل هذا اللغط.

بعد سويعات قال مسافرون أن مسقط ستقوم بإدخالهم فندقا والحجر عليهم لمدة أسبوعين وهو الإجراء المتبع لفحص المشتبه بإصابتهم لفايروس الكورونا. ولكن وقبل منتصف الليل بنحو ساعة، صرح مسؤول بوزارة الصحة أن البحرين سترتب لنقل المسافرين من مسقط على متن طائرة مستأجرة لهذا الغرض.

لم ينته المسلسل الدرامي تلك الليلة. ففي ذات المساء سمعنا عن بحرينيين قدموا من إيران إلى الدوحة عبر طائرة الخطوط الجوية القطرية. وما يزيد الطين بلة هذه المرة أنه ليس فقط لا يوجد استعداد بطائرة مجهزة لنقلهم، بل أن العلاقات بين الدوحة وجميع دول الخليج مقطوعة من أساس والسفر إليها ومنها ممنوع. بتنا هذه الليلة ولا نعرف مصير 31 بحرينيا في الدوحة، 76 آخرين في مسقط.

Comments

Popular posts from this blog

سادس أيام الحجر.. وباء برتم أرجوحة

سارة وصديقتها

زيارة جميلة