سادس أيام الحجر.. وباء برتم أرجوحة


الثلاثاء 24 مارس
(بعد مرور 88 يوما على تفشي الوباء عالميا)
(سادس أيام الحجر المنزلي)


لا توجد لدي رغبة في القيام بأي شيء هذا اليوم. كل المؤشرات توحي أننا مقدمون على أيام صعبة. الكل مجمع على هذا التصور.
كان الضوء الوحيد في الغرفة يأتي من الخارج عبر الجزء المزاح من الستار. أسمع صوت الأرجوحة في حديقة المنزل، مع كل رواح وغدو لها طوال الوقت. تستمر ضحى في التأرجح لمدة طويلة ما يثير استغرابي الشديد. كيف لا تمل من القيام بذلك لساعات؟ أغمض عيني وأغفو، لأصحو بعدها والصوت لا زال مستمرا. الصوت الرتيب الصادر منها يزيد إحساسي بالملل، وربما بالحزن كذلك. فيكمل هذا الإحساس صورة المشهد الذي نعيشه هذه الأيام. لم أحبب التشاؤم وما تقربت يوما من لابسيه، لكنها حالات يمر بها المرء حينما تتواثب عليه الأحداث القاتمة يوما بعد يوم.
لا خبرا حتى الآن عن العالقين في إيران. لا يفتأ يطاردني صوت المرأة العجوز وهي تتحدث بانكسار وصوت متهدج لا زال يبحث عن أمل رغم يأسه: "شوفوا لينا صرفة. شوفوا لينا فرج. تعبنا!"
لها كل الحق في أن تتعب بعد أن تم إلغاء (أو تأجيل) رحلتهم من مدينة مشهد الإيرانية الليلة الماضية. فبعد أن امتد لهم بصيص من نور وعلقوا أيديهم في حلقاته، إذا بهم مع وصولهم للمطار يبلغونهم أن عليهم الرجوع مرة أخرى لمقر سكنهم بسبب أن "الطقس غير ملائم" للطيران، فيما قيل لآخرين أن السبب متعلق "بالشركة وتراخيصها" من غير توضيح أكثر.

كنت أشاهد الحلقة الثالثة من مسلسل "سعدون" القديم الذي أنتجه تلفزيون البحرين قبل نحو ثلاثة عقود. رغم شهرة المسلسل محليا وحتى خليجيا، إلا أنني لم أشاهده من قبل أبدا. ولا توجد للناس أيام أفضل من هذه لمتابعة كل ما فاتهم. فصرت أبحث عن حلقاته وأشاهدها من على منصة يوتيوب.
بعد انتهاء الحلقة، انتقلت للتصفح لقراءة الأخبار، ففوجئت بخبر موت الضحية الثالثة لفايروس الكورونا في البحرين. الرجل ستيني وبحسب وزارة الصحة لديه أمراض مزمنة أيضا. خبر آخر كان متعلقا بإغلاق أسواق الأسرة لفرعها على شارع البديع للاشتباه بإصابة أحد موظفيها. أما الخبر الثالث، فكان حول الإحصائية الأولى لهذا اليوم والتي أظهرت تعافي 13 حالة، واكتشاف 13 حالة أخرى. أي أن العدد القائم للمصابين لم يتغير، وبقي على حاله منذ الأمس وهم 211 حالة.
هل بدأ الوضع يخرج عن السيطرة؟ نحن في وقت مفصلي يشهده العالم أجمع بلا شك. في العاصمة القطرية الدوحة، لجأت السلطات إلى التشهير بأسماء المخالفين للحجر الصحي وعدم الاكتفاء بالمحاسبة القانونية. ربما لأن الناس هناك ستخشى التشهير أكثر من العقوبات المالية.

لا أظن البشرية ستعي أبدا كنه الحد الفاصل بين الموت والحياة. لقيت في حياتي أفرادا في فوران شبابهم وانطلاقتهم وكلهم أمل في الحياة، أسرّوا لي بأنهم لا يهابون الموت ولا يفكرون فيه. كان هذا مثيرا للغرابة ولكنه لا زال في حدود المعقول إذ لا يخاف المرء من شيء قد يكون بعيدا عنه. غير أني لم أفهم ظاهرة خروج شبّان بشكل جماعي في بعض المناطق في أوروبا ليقيموا "حفلة الكورونا". الهوس بمخالفة الأعراف وابتداع كل ما هو غريب لا يتوقف عند حد أبدا.

النافذة لما تزل مواربة، وأنا جالس بالقرب منها، مغمضا عيني، ومستشعرا بالنسيم الداخل عبرها في أول هذا المساء. لا أصوات تأتي من الخارج سوى لجندب الليل، وبعض أصوات بعيدة ومتقطعة للسيارات. لسبب ما، كنت دائما أحب سماع صوت السيارات المسرعة القادم من بعيد عبر النوافذ في فصل الشتاء. تذكرني دائما بسماع تلك الأصوات من نافذة غرفتي عندما كنت يافعا في بيت والدي. وقتها كنت أعبر عباب المرحلتين الإعدادية والثانوية حينما كنت في تلك الغرفة. أظن سبب حبي لذلك الصوت هو أنني في أوقات الامتحانات على وجه التحديد أكون منكبا على الدراسة في الداخل، فيصبح كل صوت بالخارج جميلا فأتوق لأصبح جزءا منه. لم أفكر أبدا أو أصل لهذا التفسير إلا اليوم. فهذه فترة تجعلك تتأمل كل الأشياء.

في هدأة الليل، ومع حركة الهواء الذي يرف له ورق المحارم أمامي، ونباح كلب ربما ضال، أو هو كلب سعيد مع صاحبه في منزل من المنازل المحيطة، يتسلل إلى نفسي الأمل. أمل بأن تنتهي هذه الأيام سريعا على خير. أيام لا أدري أهي الحلم، أم أن ما سبقها من أيام كانت هي الحلم. في زمن تتماهى فيه الحقائق ويختلط بعضها ببعض، فتتعلق أثناءها قلوبنا بالأجمل منها.

لم يمكث الأمل كثيرا. فلقد صدمنا بخبر تأجيل الرحلة القادمة من إيران للمرة الثالثة. جاء النبأ في أعقاب آخر قادم من الكويت التي أعلنت خطة لإجلاء 60 ألف مواطن كويتي في الخارج.
لم يعد الوضع يحتمل المزيد من الضحك وإطلاق النكات. السلوك الذي اتسم به البحرينيون منذ الأحداث الأخيرة وضحكهم على كل شيء يمرون به حتى لو كان مؤلما صار باعثا على الضجر والحساسية. النكتة لها محلها. وحين تتعلق بالألم يسمونها الكوميديا السوداء. إنما حين يتصف شعب كامل بامتهان الكوميديا هذه ويضحك بكل عنفوان على وضعه المأساوي فتلك حالة نفسية تستدعي الدراسة. كتبت في تويتر داعيا لإيقاف تلك النكات المتعلقة بالفايروس. لم يعد الأمر مضحكا، أن نرى أناسا يموتون وآخرون يتعذبون ولا زلنا نضحك فتلك في نظري قلة مسؤولية وفقدان للمشاعر. أتمنى أن يدرك أغلبية الناس هذا الأمر فليس الأمر مضحكا البتة.

Comments

  1. فعلا الوضع تجاوز النكتة
    المشكلة ان بعض الشعوب تعتقد ان هذا الوباء مجرد اكذوبة او لعبة، لهذا تجد الاستهتار مرافق لهم

    ReplyDelete
    Replies
    1. شكرا لمساهمتك وتعليقك. فعلا للأسف هناك من يظن كذلك. وهناك من يعتقد أنه مؤامرة من شركات الأدوية وهو لا يعقل كذلك. أعرف أشخاصا يعتقدون أنه وباء مصطنع بمعنى أن الفايروس صناعي وتم تطويره ونشره لأغراض معينة

      Delete

Post a Comment

Popular posts from this blog

سارة وصديقتها

زيارة جميلة