خامس أيام الحجر.. أنا المزارع




الاثنين 23 مارس
(بعد مرور 87 يوما على تفشي الوباء عالميا)
(خامس أيام الحجر المنزلي)

استيقظت اليوم قبل طلوع الشمس. أحب هذا الوقت كثيرا. ليس لدي الكثير للقيام به في هذه الأيام. بل لا يوجد ما أقوم به فعلا. القراءة، والكتابة، والأكل والشرب، والاحتباس في غرفة لا تطل نافذتها سوى على ممر يفصل منزلي عن المنزل المجاور.

الهواء القادم من الخارج لا زال منعشا. وصوت الحمام والعصافير في هذه الساعة من اليوم جميل يبعث على الراحة. تأملت في الأصوات تلك واستطعت تمييز عشرة أنواع منها على الأقل، بينها ثلاثة أشكال لزقزقة العصافير، واثنين لهديل الحمائم، وصوت طائر المينة، وأصوات أخرى ميزتها لطيور لا أعرف أسماءها.
من محاسن هذه الأيام أنها تركت مساحة للطيور لتعود للطرق المزدحمة عادة بالسيارات. لم يمتنع الناس عن الخروج بعد، لكن قل عدد الخارجين، فاستغلت الطيور الفسحة المتاحة لها لتحط على الأسطح القريبة.

غياب المزارع البنغلاديشي عن المنزل جعلني أمام مسؤولية الاعتناء بالحديقة وما فيها من نباتات مستغلا الوقت المبكر قبل استيقاظ من بالمنزل. بدأت بري الزرع بالماء، مستخدما أنبوب المياه في جزء وإناء (كوز) الري في أجزاء أخرى. لم أكن متحمسا في الأول للقيام بهذا العمل الذي كنت أعتقده خال من المتعة. غير أن قربي من النباتات أحيا في نفسي حبها الذي أحمله تجاهها كجزء هام ورئيسي من الطبيعة. رائحة التربة بعد ارتوائها بالماء تشبه رائحة المزارع التي أعشقها جدا. كنت أنتقل بين النباتات، فلاحظت أن بعض ثمار الطماطم كان ناضجا ينتظر القطاف. تناولت واحدة، وشممتها، كانت رائحة الثمرة الناضجة الطازجة مسكرة. وتوجهت للبقية أقطفهم تباعا. عجيب حال هذه الدنيا. كيف تستمر في اكتشاف جوانب في نفسك لم تكن تدري عنها. (الصورة)


أمر آخر بان أثره على وجودي بالمنزل، هو اضطراري للطلب من أبنائي بشكل متكرر التوقف عن استخدام الانترنت أثناء إجرائي المكالمات الصوتية أو الفيديو، ذلك لأنهم حين يستخدمون الانترنت في البرامج التي تستهلك البيانات بشكل عال كالألعاب أو الأفلام، تتعثر المكالمات التي أجريها أو تتباطأ. فكان هذا عامل ضغط علي وعليهم.

ونظرا لأننا نعمل عن بعد، فاجتماعاتنا تصير عبر قنوات الاتصال الالكتروني. في اجتماع اليوم مع الفريق توزع زملائي بين من هو في المكتب أو المنزل أو خارجه، فكانت أصواتهم تأتي عبر برنامج الاتصال مع أصوات أخرى من مواقعهم، كأصوات الأطفال أو الطيور والحيوانات المنزلية، مشاركة إيانا الاجتماع، ما أضفى شيئا من الطرافة.

في انستغرام، وضع الجار "سين حاء" صورة لقصيدة من كتاب، وتعليق: "دعوت الله أن يجمعنا في القريب العاجل"، مع (هاشتاق #العالقون_في_إيران). تذكرت حديثا عابرا بينه وبين جار آخر سمعت طرفا منه: "الله يرجعها بالسلامة". فكتبت له مستفسرا. عرفت ان زوجته مع أختها هما من ضمن العالقين في إيران، وتحديدا في مدينة مشهد. يمرون بوقت صعب رغم استقرار أمرهما ولا يوجد ما ينقصهما حاليا، ولكن ما يزعج ويقلق هؤلاء العالقين هو هذه الإطالة في خطوة استرجاعهم رغم مرور أسابيع عدة منذ بدأ الفايروس في التفشي وحتى تفاقم تبعاته إلى الحد الذي وصل له اليوم. وقال: "أكثر ما يؤثر فيهم هو عدم معرفة خطة واضحة لإرجاعهم. عدم الشفافية والوضوح حول السبب الذي يؤخر رجوعهم ولماذا يحتاج القائمين على الموضوع هنا في البحرين لأسابيع لترتيب رحلة عودة طائرة واحدة."
كذلك فمن المسافرين من لا يلتزم بالإجراءات الصحية الصحيحة واختلاف تعامل الناس مع هذه الإجراءات إما من عدم إدراك أو عدم اكتراث، وهو ما يتعب النفسية ويؤذيها.
مع صوت الأرجوحة الرتيب، جاء نبأ وفاة أخ زميلنا "عين". كان هو الأخ الأخير المتبقي بعد وفاة ثلاثة أخوة آخرين. ما آلم أن يبقى المرء بعد غياب جميع أخوته. خمسة كانوا. وها هو لوحده.

الغياب بجميع أشكاله مؤلم. أعني غياب من نحب. خصوصا الغياب القسري المفروض علينا، لا الاختياري الذي يتخذه المرء لأي سبب. للغياب أشكال مختلفة. منها ما هو مؤقت ومنها ما هو دائم. وقد نكتشف أحيانا أننا قد نختار غيابا مؤقتا من النوع الدائم. حين يغيب عنا من نحفل لشأنه، ومن شاطرناه سنوات من الفرح والحزن، في حلو الحياة ومرها، فلا بد أن غيابه يخلف فينا فراغا لا يمكن سده. نتغاضى عنه في معترك الحياة وسبر تفاصيلها، لكن ما يفتأ يعود بين فينة وأخرى ليطرق أبوابنا، فاتحا بابا من الذكريات فتمر بنا كشريط من الحلم من زاوية لأخرى من أيام الحياة، ومن محطة لثانية من الطريق الطويل الذي نمضي خلاله لأقدارنا. لا شيء يبرر الغياب الاختياري مهما قست الأيام. ومهما أحاط ضبابها تفاصيلا لا ندرك كنهها لدى الآخرين حاجبا إياها عنا، فنعيش إحساس الإجحاف والظلم.

في السعودية، أخرج عضو في هيئة كبار علماءها فتوى تجوز معاقبة من يتعمد نقل العدوى بالفايروس للغير ومخالتطهم بالقتل! ومضيفا: "في حال كان الشخص على علم بإصابته بكورونا وقصد أذية الآخرين وإصابتهم بالعدوى، فإن عقوبته تجوز بالقتل تعزيرا".
لا بد أننا مقبلون على مرحلة أخرى من هذه الحقبة لم نتصورها. شعرت بألم في بطني مع قراءتي للخبر.

مدح كثيرون المتحدث عن وزارة الصحة مناف القحطاني وأداءه المطمئن والواثق مما بعث بالكثير من الرسائل الإيجابية في الأنفس. تصريحه اليوم عن عدد الفحوصات الكبير الذي يجريه الفريق الطبي لمسحات الأنف يثلج الصدر بأننا أمام فريق طبي يتعلم ويطور نفسه وأدواته وإجراءاته أيضا. وضمن ما قال، أن الفريق الطبي كان في البدء يجري 300 فحص طبي في اليوم، وزاد هذا الرقم تدريجيا حتى وصل إلى أكثر من 2000 فحص في اليوم. وأضاف: "هذا يضعنا في مصاف الدول الأولى في (إجراء) الفحص..."

كل خوفي أن يعتبر البعض الأرقام هدفا بذاتها وليست نتيجة وأن تهتم بعض الأطراف بالكم على حساب الكيف.

Comments

Popular posts from this blog

سادس أيام الحجر.. وباء برتم أرجوحة

سارة وصديقتها

زيارة جميلة