بعد مرور 94 يوما على تفشي الوباء


الاثنين 30 مارس
(بعد مرور 94 يوما على تفشي الوباء عالميا)

سمعت ذات مرة من يقول: نحن نعلّم أطفالنا الكلام في صغرهم حتى يتقنوه. ثم بعدها نقضي العمر نطالبهم بالصمت!
أدرك أن المقولة لها مآرب غير التي في رأسي اليوم.

الصمت والسكينة والركن إلى الذات من مقومات إعادة البناء الداخلي لدي. قد أمر بحالات أشعر فيها بالرغبة لكثير من الثرثرة، لكني أرجع فأصبح قليل الكلام، راكنا إلى العمل بهدوء، بل وبصمت تام أحيانا.
يحدث أن نرتب دواخلنا بشتى الأساليب. كل منا يتعلم كيف يتعامل مع ذاته، مع أفكاره، وهواجسه، وسعادته، وكل ما يمر بخلده. وبالنسبة لي، فالصمت والوحدة أجداها نفعا.

الصمت لغة بليغة، جزلة الألفاظ! يمكنه إيصال أعمق ما لديك من أفكار للآخر. بل قد يكون مرتعا لحوار خصب تقول فيه كل شيء دون أن تنبس ببنت شفة. تتداولان في صمتكما الآراء وعلى أوتاره تراقصان الكلمات.

يخطئ من يظن أن الصمت لا صوت له. بل قد يصبح الصمت ثرثارا في بعض الأحيان. لأمواجه هدير يصم الآذان. وكما للصوت طبقات، فللصمت أيضا طبقات يمكن لوقعها أن يخترق الأذن ويصل لثنايا الروح.

يقال أيضا أن لكل مقام مقال. فإن كنت تريد قولا فتمعن أين تفوه به ولا ترميه هكذا جزافا خارج المقام المبغي له. تحيّن الوقت الأمثل ليصبح قولك أنجح وأشد وقعا وأمضى أثرا. توخى السياق المناسب والظرف الرائب لتحصل على ما تبغي. فلا تقل شيئا عظيما وسط جهّال، ولا تلق قولا ساذجا في وسط علماء. لن يوقرك الجاهل لصواب رأيك، وسيستخف بك العالم لسفاهة قولك.

اليوم، قالت عضو بمجلس الشورى في مداخلة لها في المجلس أن عصفور "البلبل" البحريني مهدد بالانقراض. هذا رأي يهم الكثيرين بلا شك من منطلقات بيئية وحتى تراثية. غير أن الكلام جاء في غير وقته مع انشغال العالم بأخبار وباء يفتك بالإنسان.

تلقف تصريحات عضو الشورى المغردون البحرينيون ومشتركو وسائل التواصل الاجتماعي بين ضاحك ومستهزئ. وحتى كتب أحدهم مقلدا قصيدة الأصمعي مع تحريفها: "صوت صفير البلبل هيج قلبي الثمل.. والشعب من مجلسنا يولول ولي ولي".

فيما قال آخرون أن الإنسان البحريني هو المهدد بالانقراض إذا استمر اهتمام المجالس التشريعية بالعصافير. كنت أرى أن الكلام وردة الفعل هذه كلها تهويلات لا يستأهلها التصريح، لكني أوردها من باب رصد الأحداث.

في هذا اليوم، عقد مجلس الوزراء اجتماعه الأسبوعي عن بعد للمرة الأولى في تاريخه. فلم يحدث من قبل أن اجتمعت المجلس عن طريق الهاتف أو البث المباشر. وهذا ما حدث اليوم، فقد عقد الاجتماع برئاسة رئيس الوزراء عن طريق البرامج الاتصالية المرئية والمسموعة التي شملت وزراء الحكومة كل في موقعه.

لم ينتصف النهار كذلك إلا ونشرت وزارة التجارة والصناعة عن اكتشاف مفتشيها لكميات كبيرة من الأغذية موضوعة في أربعة مخازن محكم عليها منذ شهر فبراير. يبعد شهر رمضان الكريم عنا نحو ثلاث أسابيع من الآن. والأغذية تم تخزينها لبيعها بعد ارتفاع أسعارها بأعلى ما يمكن من أرباح.

لا يكف الإنسان عن الطمع. ولا عن كنز جوفه بالمال الحرام. حينما يستغل التجار ظرفا كهذا، ملؤه الخوف من المجهول، ويبحث الناس فيه عما يغيثهم، فيعمدون إلى رفع أسعار الغذاء، والمتاجرة في أسعار الدواء، فهذا لا بد أن يضرب على يده. المجتمعات بحاجة لمن يعطي، لمن يبذل، لمن يجود بما يزيد عن حاجته من أجل الآخرين من المحتاجين.

أصبح ملفت جدا الاهتمام المتزايد للناس بممارسة الرياضة بشكل جماعي هذه الأيام. أصبحوا يخرجون بشكل مكثف لممارسة هواية المشي، أو الركض، أو ركوب الدراجات، بأضعاف ما كان يقومون به قبل اتخاذ إجراءات التباعد الاجتماعي. رغم إغلاق المماشي المعدة للتريض درء للتجمعات، إلا أن الناس استمروا في استغلال الشوارع العامة في داخل وخارج قراهم للمشي، محققين بذلك هدفين: التريض، والخروج عن الروتين.

حان المساء، وعاد معه وقت التأمل ووقت الصمت. أرجعت رأسي للخلف في حديقة المنزل، أسدلت جفوني وتهادى رأسي يمنة ويسرة، مرسلا تنهيدة عميقة سخنتها أحداث لم أر مثيلا لها من قبل في عمري. حتى أبي حين سألته قال أنه لم ير شيئا كهذا مذ فتح عينيه في هذه الدنيا. أي الأوقات التي نعيشها هذه؟ وبأي العصور نمر؟ جندب الليل يرسل صوته مستمتعا من بين الزرع الذي يبس بعضه. مرت نسمة ربيعية حركت أوراقا تساقطت من الشجر على الأرض. دارت بها على الأرض مصدرة حفيفا بسيطا في هدأة المساء. هل ترانا مثل ورقة سقطت من شجر تلعب بها الريح كيفما تشاء؟ أم لا زلنا معلقين هناك فوق الغصن ننتظر أن يمدنا الأمل بالماء والملح؟

Comments

Popular posts from this blog

سادس أيام الحجر.. وباء برتم أرجوحة

سارة وصديقتها

زيارة جميلة