الكعبة المغلقة


الخميس 5 مارس
(بعد مرور 69 يوما على تفشي الوباء عالميا)

ما هو مقدار تمسكنا بالمبادئ؟
وهل المبادئ ثابتة؟ أم هي خاضعة للظروف المحيطة بها؟ هل يمكن أن تتغير أفكارنا بمرور الزمن؟ أم أنظل متمسكين بها طوال الوقت ومهما تغيرت الظروف والمعطيات؟ وإذا تغيرت قناعتنا حول أمر ما، فهل يسمح لنا المحيط بتغييرها؟ أم يتدخل في معتقداتك ويفرض عليك آراء يظنها حقائق ومبادئ يجب عدم تجاوزها ويعاقب كل من يتجرأ بهذا التجاوز؟

نحن نمر بظرف قاهر على جميع الأصعدة. بدت دائرة تأثيره تتوسع لتصل أوجه متزايدة من مظاهر الحياة. وما كان واجبا يوم أمس تحول لمحرم اليوم. وما كان مستحبا أصبح متروكا.

في خطوة تاريخية لم أشهدها قط في حياتي، أعلنت السعودية هذا اليوم أنها ستخلي الحرم المكي والنبوي في غير أوقات الصلاة. وأن المسجدين سيتم تعقيمهما في وقت الإغلاق درءً لانتشار الفايروس بين مرتادي المسجدين الحرمين. وشملت الإجراءات إغلاق صحن المطاف حول الكعبة المشرفة، والمسعى بين الصفا والمروة. جاء هذا الإعلان بعد أيام من وقف العمرة.
انتشرت في ذات اليوم صور لم أر مثيلا لها من قبل. بدا فيها صحن الكعبة خال من الطائفين. تقاذفتني المشاعر بين نقيضين: الصدمة، والراحة. الصدمة الشبيهة بما يمر به المرء حينما يفقد عزيزا عليه، فلا تبدو عليه علامات الفقد والحزن لهول وقع الخبر في شعور قد يستمر لساعات. فيظن الآخرون لوهلة أن تأثره بسيط. غير أنه بعد أن تنتهي لديه صدمة المفاجأة، تتقاطر عليه المشاعر ويستسلم لها. أظن أن القرار الذي اتخذته السعودية خلّف في النفس أثرا مشابها لحد كبير. فالمنظر الخالي للبيت الحرام كان مفاجئا وغريبا تماما. لم يكن ممكنا من قبل رؤية الرخام في أرض البيت لكثرة الطائفين والركع السجود. أما اليوم فالبيت يرى أبيضا بالكامل، خال من البشر، ملتف بالسكون. حتى قال أحدهم أن الله حين رأى بعدنا عنه أغلق عنا بابه.

مرت المنطقة بالكثير من الكوارث. وطاف بالسعودية العديد من الأوبئة على مر التاريخ شأنها شأن البلدان والأمصار الأخرى. إلا أنني لم أر أبدا أن أي من تلك الأوبئة أو الأمراض والكوارث قط أدى لخلو البيت الحرام.
كثيرة هي الأسئلة التي تناوشت عقلي في إثر ذلك. عن حجم الوباء فعليا، وما إذا كانت الإجراءات مرتبطة بمدى انتشاره الحقيقي في السعودية وباقي الدول أم أن المملكة لديها دراية ما حول طبيعة انتشار الوباء فقامت بكل هذا الإجراءات المؤلمة احترازيا.


سمعت حديثا بين زميلين، مفاده أن البحرين ستسمح للمشاركين في سباقات الجائزة الكبرى (فورمولا واحد) بالدخول بعد إجراء فحوصات مكثفة فور وصولهم، بدلا من تطبيق الحظر عليهم. ويشمل ذلك فريق فيراري.
فريق فيراري إيطالي. وإيطاليا أضحت اليوم من الدول الموبوءة. فبحسب الأرقام المعلنة، في إيطاليا حتى اليوم أكثر من ثلاثة آلاف مصاب، وتوفي فيها 107 شخص من الفايروس. وقد نقلت وكالات الأنباء خبر إغلاق إيطاليا لجميع المدارس فيها ابتداء من اليوم ولمدة 10 أيام بشكل أولي كإجراء حمائي، كما ستجرى جميع المباريات الرياضية فيها دون جمهور لمدة شهر.

في البحرين، خصصت وزارة الصحة صفحة يومية في الصحف اليومية تنشر فيها التحذيرات الرئيسية، إلى جانب آخر الإحصاءات المتعلقة بالمرض. في عدد اليوم من الصحف، حمل الإعلان إجراء فحوص لما يفوق 3700 شخص. وأن الحالات القائمة تبلغ اليوم 51 حالة. كانت الأرقام حتى الأمس تؤكد إصابة 52 شخصا، وشفاء شخص واحد فقط. نفس الصحف نشرت مقابلة مع هذا الرجل الذي شفي، وفيها يصرح: "التجربة كانت قاسية وتتطلب الصبر."

مع منتصف النهار تماما، أعلنت وزارة الصحة في البحرين عن تعافي ثلاث حالات إضافية من الفايروس. والمتعافون هما مواطنان بحرينيان، وامرأة سعودية "بعد تلقيهم العلاج والرعاية اللازمة تحت إشراف الطاقم الطبي المتخصص في أحد المراكز الخاصة بالعزل والعلاج..."
لكنها ما فتئت وعادت لتعلن عن اكتشاف إصابة سادسة من داخل البحرين، أي أنها ليست لشخص قادم من خارج البلاد، ليرتفع مجموع عدد المصابين حاليا إلى 52 مصابا مرة أخرى.

في أمريكا، كان الوباء في أول أيامه. ففي كاليفورنيا، سخر رواد وسائل التواصل الاجتماعي بعد ما قامت مديرة إدارة الصحة بإعطاء تعليمات "صارمة" لتفادي الإصابة توصي بعدم لمس الفم والأنف والعين. وهي قامت مباشرة في أثناء التصريح بلعق طرف اصبعها لقلب الصفحة التي أمامها في مخالفة صريحة ومباشرة للتعليمات التي كانت تقرأها.

استمر النقاش محليا حول الوضع الذي يمر به البحرينيون العالقون في إيران. فيما أشيع أن أمير الكويت تكفل بإرجاع البحرينيين ومعالجتهم، إلا أنني استبعدت هذا الخبر فهو مخالف للبروتوكولات ومثير للحرج للغاية. في هذا الزمن، يجب على المرء أن يكون حذرا فيما يصدق من أخبار.

الإشاعة سلاح يستخدم بين المتخاصمين والمتعادين. المؤسف أن تعتقد دول أو أطراف أن ما يمر به العالم هو بمثابة حرب يجب الاستفادة من أجوائها. وهذا ما فعلته قناة الميادين حينما نقلت عن مصادر إسرائيلية أن رئيس وزراء الإمارات الشيخ محمد بن راشد آل مكتوم أصيب بالفايروس إثر مخالطة بعض رجاله في قصر الحكومة.
ما لا أستطيع تفسيره هو السبب الذي يجعل أي جهة تنشط في نشر إشاعات لا تدرك السبب وراءها. فمن المعقول جدا أن تنتشر إشاعة معروف الغرض من ورائها، غير أن بعض الشائعات لا تكون فقط مجهولة المصدر، بل ومجهولة الهوية والغاية أيضا. وهنا يأتي دور العقلاء، فلا يجب أن يصدق الإنسان كل ما يصل إليه، بل عليه أن يكون متحفزا متشككا في كل شيء. نحن في الإعلام ندرب الصحفيين الجدد على طرق التمييز بين الصحيح والمشاع من الأخبار. نعلمهم كيف يميزون بين المصادر على اختلافها، وأي المصادر التي يمكنهم اللجوء إليها وأخذ المعلومة منها. ومن طرق حماية الصحفي لنفسه من الوقوع في فخ الإشاعة، أن يتعلم كيف يكون شكاكا في كل معلومة تصله. وأن يقوم بأخذها من أكثر من مصدر حتى يثق في مدى صدقها.
أما في المجتمع، فعلى المثقفين والمتعلمين أن يكونوا مساهمين في نشر المعلومة الصحيحة وتنوير المجتمع. أذكر ذات مرة أن "دكتورا" عكف على إرسال العديد من الرسائل لي ضمن ما يعرف بـ"البرودكاست" أي الرسائل المنشورة جمعيا. الحقيقة أن الكثير من تلك الرسائل التي كان ينشرها لم تكن صحيحة، أو على أقل تقدير كانت محرّفة وغير دقيقة. تجنبت – حرجا منه – أن أفاتحه في ذلك، حتى طفح الكيل فكتبت له مستفسرا: "دكتور، هل الخبر الذي أرسلته هذا صحيح؟" قاصدا بذلك آخر خبر أرسله لي. فتفاجأت بإجابته المقتضبة "كما وصلني"ّ!

هذا العبارة التي تحولت لظاهرة انتشرت في المجتمع. يخلي المرء نفسه من نقل المعلومة رغم أنه نقلها بالفعل. ويستخدمها الكثيرون للأسف ويوقعون في تصديق كل ما ينقلون البسطاء في المجتمع.


أخبار متفرقة من اليوم:
-       اجتمع نواب برلمانيون مع مسؤولين بوزارة الخارجية لبحث "تسريع إجراءات إخلاء البحرينيين من إيران."
-       الإمارات ستخلي قرابة 200 شخص من مختلف الجنسيات عالقون في الصين والتكفل بعلاجهم على أراضيها لدواع إنسانية رغم أنهم ليسوا من مواطنيها.
-       صدور توجيهات من وزارة التربية للكوادر التعليمية بالعودة للمدارس يوم الأحد القادم، مع تمديد الإجازة للطلاب لمدة أسبوعين آخرين. كما جاءت التوجيهات للجميع باستحداث طرق لتعليم الطلاب عن بعد.
-       أصدرت حلبة البحرين الدولية للسيارات في هذا المساء خبرا أكد استضافة المملكة لسباق الفورمولا "بشكل مشوق وآمن لمحبي ومتابعي الرياضة محليا ودوليا، منوهة بأنها ستجرى ضمن "إجراءات احترازية مشددة".

Comments

Popular posts from this blog

قصوا ذيل السمكة

سابع أيام الحجر.. مجهري يشل الحياة، ويحول الدول إلى كانتونات مغلقة

خامس أيام الحجر.. أنا المزارع