في الخوف كلنا سواسية


الأربعاء 26 فبراير
(بعد مرور 61 يوما على تفشي المرض عالميا)

كانت الشوارع هذا الصباح أقل ازدحاما من كل يوم. لا بد أن عطلة المدارس قللت من عدد السيارات في هذه الساعة المبكرة التي أغادر فيها المنزل.

وصلتني رسالة صباحية من الزميلة "هاء عين" في إحدى الجهات تسأل عن خطوات وضع خطة إعلامية للطوارئ. كان واضحا أن سؤالها له علاقة بالفايروس المنتشر والذي سبب هلعا كبيرا بين الناس.
لماذا أقول هلع؟

لقد اختفت من الأسواق جميع الكمامات الصحية، وكل علب التعقيم، وصار لها سوقا سوداء رفعت قيمة كل منها أضعافا.

ما نتعلمه من هذه الأزمات أنه في زمن الخوف يتساوى المثقف والجاهل، والغني والفقير، والموظف والمدير. جميعهم يتصرفون بشكل واحد ونمط لا يتغير. تظهر الصفات المتوحشة للبشر في وقت الأزمات. القسوة، والجشع، والأنانية، وحتى الاقتتال.

فالأسواق امتلأت بالمشترين الذين حينما رأتهم إحداهن، قالت: "إنهم يتقاتلون من أجل التخزين!" فقد ملأ الكثير منهم مؤنة أكثر من شهر في سلال من الطعام وكل ما ظنوا أنهم سيحتاجونه خلال الأسابيع القادمة.
أنهينا يومنا أمس على خبر ارتفاع عدد المصابين البحرينيين الذين اكتشف عدواهم بالمرض إلى 24 مصابا. أحد الصحفيين وضع مقارنة على حسابه في الانستغرام لترتيب الدول بين يومين، في إحصائية مأخوذة من منظمة الصحة العالمية. بحسب هذا الترتيب، تقدمت البحرين إلى المرتبة 12 على مستوى العالم من حيث عدد المصابين، مزيحة بذلك استراليا التي بلغ فيها العدد المعلن للمصابين 23 حتى اليوم.  

في أول النهار طالعتنا الأخبار الرسمية عن قيام ولي العهد بزيارة إلى غرفة العمليات التابعة للفريق الوطني للتصدي لفيروس كورونا. وتضمن الخبر توجيهاته للفريق، وشملت كلمته: "فيروس الكورونا (كوفيد 19) لا يفرق بين عرق أو دين أو أي انتماء فكري أو اجتماعي أو طائفة."

كانت تلك ولا بد رسالة واضحة في أعقاب ما نشره كثيرون من تجار الفتنة. هناك نوع يصعب تصنيفه من البشر. يحرص أولئك كثيرا على ألا يفوتوا أية فرصة دون تعكير السلم والتآلف الأهلي والمدني. تكاد تجزم بأنهم لا همّ لهم إلا رؤية الاقتتال والتناحر بين الناس، مستفيدين من اختلافات صغيرة أو كبيرة والنفخ فيها وإذكاء نار الفتنة فيها حتى يحمي أوارها مع اتباع بعض البسطاء لهم ولأقوالهم وتضخيمها وإسقاطها على حيواتهم اليومية. فإذا حمى الوطيس صعب معه حتى تدخل ذوي النهى.

يحسب للأخ "خاء جيم" ما نشره على حسابه في انستغرام، حيث ظهر متحدثا عما يكتبه البعض في تويتر أو انستغرام، مؤكدا طيبة أهل البحرين، وأن الأزمات تخرج معادن الأشخاص، غير أن هذه التصرفات ليست من معدن أهل البحرين. ونادى بإيقاف جميع هذه الكتابات المعاكسة لسمعة أهل البحرين على مستوى المنطقة.
في مجموعة "واتساب" مضاف رقمي فيها، وضع أحد المشاركين "معلومة" من حساب انستغرام "إخباري" جاء فيه: أعلنت منظمة الصحة العالمية أنها ستزور إيران لتتعلم منها طريقة تصنيع "الدواء" الذي توصل له الإيرانيون لمعالجة هذا الفايروس الخطير. لم يكن حساب الإنستغرام معروفا، كما لم تكن التصريحات المكتوبة فيه مصاغة بشكل يمكن الوثوق بها. إنها حرب الـ"نحن وهم" التي تنتشر وقت الأزمات وتتغذى على حطب الفتن.

في نفس اليوم، انتشر فيديو على تويتر لنائب وزير الصحة الإيراني وهو يقف في مؤتمر صحفي للإعلان عن "جهوزية" الدولة الإسلامية لمواجهة كورونا. في أثناء اللقاء، كان النائب شديد التعرق ودأب على مسح جبهته بالمنديل عددا من المرات. في اليوم التالي، أعلن عن إصابة نائب الوزير. ربما يدل هذا الأمر على مدى انتشار الفايروس في إيران.

لم يكد ينتصف النهار حتى انتشر فيديو خفيف الظل للمصاب الأول في البحرين، والذي نشره بنفسه كما يبدو في ردة فعل منه لا أعرف إن كان ابتكرها بنفسه أم أشار أحد عليه بها. فقد نشر تصويرا لنفسه من غرفة العزل، وهو يتناول ساندويتش شاورما، ويقول: "يقولون إن الملغوم منعوت (موصوف) لمصاب الكورونا.." ثم بخفة ظله يضيف بلهجة أهل سترة المحببة، وهو يقضم من الساندويتش: "مليه حل!" وينهي التصوير.

في واقع الأمر، كانت تلك خطوة ذكية من الرجل. وسواء كانت من بنات أفكاره أم من نُصْحِ أحد له، فهي بمثابة ردة الفعل "المُسْكِتَة" لبعض الفضوليين الذين ما إن عرفوا بإصابته حتى نشروا اسمه وصوره في مخالفة لكل الأعراف الإنسانية والأخلاقية. فهذه الأعراف توجب عدم التشهير بالمصاب أو المتهم أبدا وتحت أي عذر أو ظرف. ذلك لأن نشر البيانات الشخصية لهؤلاء يضر بهم، وبنفسياتهم، وبأهاليهم وقد يصل الضرر في أحيان كثيرة إلى ضرر ملموس يصعب علاجه.

في الإعلام يسمى مثل هذا الفعل "افتراس الضعيف". ويعني أن يذهب الصحفي (في مخالفة لمبادئ الصحافة) ويصور أو يجري مقابلة مفاجئة مع مصاب، أو متألم أو حديث سن، ويوجه له أسئلة شخصية مثل: "بماذا تشعر مع فقدان أمك في هذا الحادث؟" ويعد هذا "افتراسا" لأن الشخص في حالة ضعفه قد يوجه نداء استغاثة وهو في قاع الألم أو الفقد أو الوجد. وسيبقى هذا الإحساس لديه محفورا في ذاكرته مخلدا بسبب تلك المقابلة التي ستبقى مسجلة ومتداولة طوال حياته.

لم ينقض النهار حتى طالعنا خبر تمديد البحرين للحظر الجوي بينها وكل من دبي والشارقة لمدة 48 ساعة إضافية.


Comments

Popular posts from this blog

قصوا ذيل السمكة

سابع أيام الحجر.. مجهري يشل الحياة، ويحول الدول إلى كانتونات مغلقة

خامس أيام الحجر.. أنا المزارع